الأدب الصغير عبد الله بن المقفع
بسم الله الرحمن الرحيم
قال ابن المقفع: أما بعد، فإن لكل مخلوقٍ حاجةً، ولكل حاجةٍ غايةً، ولكل غاية سبيلاً. والله وقت للأمُور أقدارها، وهيأ إلى الغايات سبلها، وسبب الحاجات ببلاغها.
فغايةُ الناسِ وحاجاتهم صلاحُ المعاشِ والمغاد، والسبيل إلى دركها العقل الصحيح. وأمارةُ صحةِ العقلِ اختيارُ الأمورِ بالبصرِ، وتنفيذُ البصرِ بالعزمِ.
الأدب ينمي العقول
وللعقولِ سجياتٌ وغرائزُ بها تقبل الأدب، وبالأدبِ تنمى العقولُ وتزكو.
فكما أن الحبة المدفونة في الأرضِ لا تقدر أن تخلعَ يبسها وتظهر قوتها وتطلع فوق الأرضِ بزهرتها وريعها ونضرتها ونمائها إلا بمعونةِ الماء الذي يغورُ إليها في مستودعها فيذهب عنها أذى اليبس والموت ويحدث لها بإذن الله القوة والحياة، فكذلك سليقةُ العقلِ مكنونةٌ في مغرزها من القلبِ: لا قوة لها ولا حياة بها ولا منفعة عندها حتى يعتملها الأدبُ الذي هو ثمارها وحياتها ولقاحها.
وجل الأدب بالمنطق وجل المنطقِ بالتعلمِ. ليس منه حرف من حروف متعجمه، ولا اسم من أنواع أسمائها إلا وهو مروي، متعلمٌ، مأخوذٌ عن إمام سابقٍ، من كلامٍ أو كتابٍ.
وذلك دليلٌ على أنّ الناس لم يبتدعوا أصولها ولم يأتهم علمها إلا من قبلِ العليمِ الحكيمِ.
فإذا خرجَ الناسُ من أن يكونَ لهم عملٌ أصيلٌ وأن يقولوا قولاً بديعاً فليعلمِ الواصفونَ المخبئون أن أحدهم، وإن أحسن وأبلغ، ليس زائداً على أن يكون كصاحب فصوص وجد ياقوتاً وزبر حداً ومرجاناً، فنظمه قلائد وسموطاً وأكاليل، ووضع كل فص موضعهُ، وجمعَ إلى كل لونٍ شبهه وما يزيدهُ بذلك حسناً، فسمي بذلك صانعاً رفيقاً، وكصاغة الذهب والفضة، صنعوا منها ما يعجبُ الناس من الحلي والآنية، وكالنحل وجدت ثمراتٍ أخرجها الله طيبةً، وسلكت سبلاً جعلها الله ذللاً، فصار ذلك شفاءً وطعاماً، وشراباً منسوباً إليها، مذكوراً به أمرها وصنعتها.
فمن جرى على لسانه كلامٌ يستحسنهُ أو يستحسنُ منهُ، فلا يعجبن إعجاب المخترع المبتدعِ، فإنه إنما اجتناهُ كما وصفنا.
الاقتداء بالصالحين
ومن أخذ كلاماً حسناً إن غيره فتكلم به في موضعه وعلى وجهه، فلا ترين عليه في ذلك ضؤولة. فإن من أعين على حفظِ كلامٍ المصيبين، وهدي للإقتداء بالصالحين، ووفق للأخذِ عنِ الحكماء، ولا عليهِ أن لا يزداد، فقد بلغ الغاية، وليس بناقصهِ في رأيه ولا غامطهِ من حقه أن لا يكون هو استحدث ذلك وسبق إليه. فإنما إحياء العقل الذي يتم به وستحكم خصالٌ سبعٌ: الإيثارُ بالمحبةِ، والمبالغة في الطلب، والتثبتُ في الاختيارِ، والاعتيادُ للخيرِ، وحسنُ الرعي، والتعهد لما اختير واعتقد، ووضع ذلك موضعهُ قولاً وعملاً.
أما المحبة فإنها تبلغ المرء مبلغَ الفضلِ في كل شيء من أمرِ الدنيا والآخرة حين يؤثر بمحبته. فلا يكون شيءٌ أمرأ ولا أحلى عنده منه.
وأما الطلبُ، فإن الناس لا يغنيهم حبهم ما يحبون وهو أهم ما يهوون عن طلبه وابتغائه. ولا تدركُ لهم بغيتهم ونفاستها في أنفسهم، دون الجد والعمل.
وأما التثبتُ والتخيرُ، فإن الطلبَ لا ينفعُ إلا معهُ وبه. فكم من طالب رشدٍ وجدهُ والغي معاً، فاصطفى منهُما الذي منهُ هربَ، وألغى الذي إليه سعى، فإذا كان الطالبُ يحوي غير ما يريدُ، وهو لا يشك في الظفرِ، فما أحقهُ بشدةِ التبيينِ وحسنِ الابتغاء! وأما اعتقادُ الشيء بعد استبانته، فهو ما يطلبُ من إحراز الفضل بعد معرفته.
وأما الحفظُ والتعهد، فهو تمام الدركِ. لأن الإنسان موكل به النسيانُ والغفلةُ: فلا بد لهُ، إذا اجتبى صواب قولٍ أو فعلٍ من أن يحفظهُ عليه ذهنهُ لأوان حاجته.
وأما البصرُ بالموضعِ، فإنما تصيرُ المنافعُ كلها إلى وضعِ الأشياء مواضعها، وبنا إلى هذا كله حاجةٌ شديدةٌ. فإنا لم نوضع في الدنيا موضعَ غنى وخفضِ ولكن بموضعِ فاقةٍ وكدٍ، ولسنا إلى ما يمسكُ أرماقنا من المأكل والمشرب بأحوج منا إلى ما يشبتُ عقولنا من الأدبِ الذي به تفاوتُ العقول. وليس غذاءُ الطعامِ بأسرعَ في نباتِ الجسدِ من غداء الأبدٍ في نباتِ العقلِ. ولسنا بالكد في طلبِ المتاعِ الذي يلتمسُ بهِ دفعُ الضررِ والغلبةُ بأحق منا بالكد في طلبِ العلمِ الذي يلتمسُ بهِ صلاحُ الدينِ والدنيا.
ما وضع في هذا الكتاب
وقد وضعتُ في هذا الكتاب من كلام الناسِ المحفوظِ حروفاً فيها عونٌ على عمارةِ القلوبِ وصقالها وتجليةِ أبصارها، وإحياءٌ للتفكيرِ وإقامةٌ للتدبير، ودليلٌ على محامدِ الأمور ومكارمِ الأخلاقِ إن شاء اللهُ!
انظر أين تضع نفسك
الواصفون أكثرُ من العارفين، والعارفون أكثرُ من الفاعلينَ.
فلينظرُ امرؤ أين يضعُ نفسه. فإن لكل امرئ لم تدخل عليه آفةً نصيباً من اللب يعيشُ به، لا يُحب أن لهُ به من الدنيا ثمناً. وليس كل ذي نصيبٍ من اللب بمستوجبٍ أن يسمى في ذوي الألبابِ، ولا يوصفُ بصفاتهم. فمن رام أن يجعل نفسهُ لذلك الاسم والوصفِ أهلاً، فليأخذ له عتادهُ وليعد له طول أيامه، وليؤثره على أهوائهِ. فإنهُ قد رام أمراً جسيماً لا يصلحُ على الغفلة، ولا يدركُ بالعجزةٍ، ولا يصيرُ على الأثرةِ. وليس كسائرِ أمورِ الدنيا وسلطانها ومالها وزينتها التي قد يدركُ منها المتواني ما يفوتُ الثابرُ، ويصيبُ منها العاجزُ ما يخطئ الحازمُ.
جماع الصواب وجماع الخطأ
وليعلم أن على العاقلِ أموراً إذا ضيعها حكم عليه عقلهُ بمقارنة الجهار.
فعلى العاقلِ أن يعلم أن الناس مشتركونَ مستون في الحبُ لما يوافقُ والبغضِ لما يؤذي، وأن هذه منزلةٌ اتفق عليها الحمقى الأكياسُ، ثم اختلفوا بعدها في ثلاث خصالٍ هن جماعُ الصوابِ وجماعُ الخطأ، وعندهن تفرقتِ العلماءُ والجهال، والحزمةُ والعجزةُ.
الباب الأول من ذلك
أن العاقل ينظرُ فيما يؤذيه وفيما يسرهُ، فيعلم أنّ أحق ذلك بالطلبِ، إن كان مما يحب، وأحقهُ بالاتقاء، إن كان مما يكرهُ، أطوالهُ وأدومُهُ وأبقاهُ، فإذا هو قد أبصر فضل الآخرةِ على الدنيا، وفضل سرورِ المروءةِ على لذة الهوى، وفضل الرأي الجامعِ الذي تصلحُ به الأنفُسُ والأعقابُ على حاضرِ الرأي الذي يستمتعُ به قليلاً ثم يضمحل، وفضل الأكلاتِ على الأكلة والساعات على الساعة.
الباب الثاني من ذلك
أن ينظُرَ فيما يؤثرُ من ذلك، فيضعَ الرجاءَ والخوفَ فيهِ موضعهُ، فلا يجعل اتقاءهُ لغيرٍ المخوفِ ولا رجاءهُ في غيرِ المدركِ. فيتوقى. عاجلَ اللذاتِ طلباً لآجلها، ويحتملُ قريبَ الأذى توقياً لبعيدهِ. فإذا صارَ إلى العاقبةِ، بدا لهُ أن قرارهُ كان تورطاً وأن طلبه كان تنكباً.
الباب الثالث من ذلك
هو تنفيذُ البصرِ بالعزمِ بعد المعرفةِ بفضل الذي هو أدوم، وبعد التثبتِ في مواضعِ الرجاء والخوف. فإن طالب الفضل بغير بصرٍ تائهٌ حيرانُ، ومبصرُ الفضلِ بغيرِ عزمٍ ذو زمانةٍ محروم.
محاسبة النفس
وعلى العاقل مخاصمةُ نفسه ومحاسبتُها والقضاءُ عليها والإثابةُ والتنكيلُ بها.
أما المحاسبةُ، فيحاسبُها بما لها، فإنهُ لا مال لها إلا أيامُها المعدودةُ التي ما ذهبَ منها لم يستخلف كما تستخلفُ النفقةُ، وما جعل منها في الباطلِ لم يرجع إلى الحق، فيتنبهُ لهذه المحاسبةِ عند الحول إذا حال، والشهر إذا انقضى، واليوم إذا ولى، فينظر فيما أفنى من ذلك، وما كسب لنفسهِ، وما اكتسب عليها في أمرِ الدينِ وأمرِ الدنيا. فيجمعُ ذلك في كتابٍ فيه إحصاءٌ، وجدٌ، وتذكيرٌ للأمورِ، وتبكيتٌ للنفسِ وتذليل لها حتى تعترفَ تذعن.
وأما الخصومةُ، فإن من طباعِ النفسِ الآمرةِ بالسوء أن تدعي المعاذير فيما مضى، والأماني فيما بقي، فيرد عليها معاذيرها وعللها وشبهاتها.
وأما القضاءُ، فإنهُ يحكمُ فيما أرادت من ذلك على السيئة بأنها فاضحةٌ مرديةٌ موبقةٌ، وللحسنةِ بأنها زائنةٌ منجيةٌ مربحةٌ.
وأما الإثابةُ والتنكيلُ، فإنهُ يسر نفسهُ بتذكر تلك الحسناتِ ورجاء عواقبها وتأميلِ فضلها، ويعاقبُ نفسه بالتذكر للسيئاتِ والتبشعِ بها والاقشعرار منها والحزن لها.
فأفضل ذوي الألباب أشدهم لنفسه بهذا أخذاً، وأقلهم عنها فيه فترةً.
ذكر الموت
وعلى العاقل أن يذكر الموتَ في كل يومٍ وليلةٍ مراراً، ذكراً يباشر به القلوبَ ويقدعُ الطماح، فإن في كثرةِ ذكر الموتِ عصمةً من الأشرِ، وأماناً بإذن الله، من الهلعِ
إحصاء المساوئ
وعلى العاقل أن يحصي على نفسه مساويها في الدين وفي الأخلاق وفي الآدابِ، فيجمع ذلك كلهُ في صدرهِ أو في كتابٍ، ثم يكثر عرضهُ على نفسه، ويكلفها إصلاحهُ، ويوظف ذلك عليها توظيفاً من إصلاح الخلةِ والخلتينِ والخلالِ في اليومِ أو الجمعةِ أو الشهرِ.
فكلما أصلحَ شيئاً محاهُ، وكلما نظر إلى محوٍ استبشر، وكلما نظر إلى ثابتٍ اكتأب.
الخصال الصالحة
وعلى العاقلِ أن يتفقد محاسنَ الناسِ ويحفظها على نفسه، ويتعهدها بذلك مثل الذي وصفنا في إصلاح المساوي.
وعلى العاقل أن لا يخادن ولا يُصاحبَ ولا يجاورَ من الناس، ما استطاعَ، إلا ذا فضلٍ في العلم والدينِ والأخلاقِ فيأخذُ عنهُ، أو موافقاً لهُ على إصلاحِ ذلك فيؤيدُ ما عندهُ، وإن لم يكن لهُ عليهِ فضلٌ.
فإن الخصال الصالحة من البر لا تحيا ولا تنمى إلا بالموافقين والمؤيدين. وليس لذي الفضلِ قريبٌ ولا حميمٌ أقربُ إليهِ ممن وافقهُ على صالحِ الخصال فزادهُ وثبتهُ.
ولذلك زعم بعضُ الأولينَ أن صُحبةَ بليدٍ نشأ مع العلماء أحب إليهم من صحبةِ لبيبٍ نشأ مع الجهال.
من نسي وتهاون خسر
وعلى العاقلِ أن لا يحزن على شيءٍ فاتهُ من الدنيا أو تولى، وأن ينزلَ ما أصابهُ من ذلك ثم انقطعَ عنهُ منزلةَ ما لم يصب، وينزل ما طلبَ من ذلك ثم لم يدركهُ منزلة ما لم يطلب، ولا يدع حظهُ من السرورِ بما أقبل منها، ولا يبلغن ذلك سُكراً ولا طغياناً، فإن مع السكر النسيانَ، ومع الطغيانِ التهاونَ، ومن نسي وتهاون خسر.
إيناس ذوي الألباب
وعلى العاقل أن يؤنس ذوي الألباب بنفسه ويجرئهم عليها حتى يصيروا حرساً على سمعهِ وبصرهِ ورأيه، فيستنيم إلى ذلك ويرحَ له قلبهُ، ويعلم أنهم لا يغفلونَ عنه إذا هو غفل عن نفسه.
ساعة عون على الساعات
وعلى العاقل، ما لم يكن مغلوباً على نفسه، أن لا يشغلهُ شغلٌ عن أربعِ ساعاتٍ: ساعةٍ يرفعُ فيها حاجتهُ إلى ربهِ، وساعةٍ يحاسبُ فيها نفسهُ، وساعةٍ يفضي فيها إلى إخوانهِ وثقاته الذين يصدقونه عن غيوبهِ ويصونوهُ في أمرهِ، وساعةٍ يُخلي فيها بين نفسهِ وبين لذتها مما يحل ويجملُ، فإن هذه الساعةَ عونٌ على الساعات الأخرِ، وإنّ استجمام القلوبِ وتوديعها زيادةُ قوةٍ لها وفضل بلغةٍ.
الرغبات الثلاث
وعلى العاقلِ أن لا يكونَ راغباً إلا في إحدى ثلاثٍ: تزودٍ لمعادٍ، أو مرمةٍ لمعاشٍ، أو لذةٍ في غير محرمٍ.
الناس طبقتان متباينتان
وعلى العاقلِ أن يجعل الناسَ طبقتينِ متباينتينِ، ويلبس لهم لباسينِ مختلفينِ، فطبقةٌ من العامة يلبسُ لهم لباسَ انقباضٍ وإنجاز وتحفظٍ في كل كلمةٍ وخطوةٍ، وطبقةٌ من الخاصة يخلعُ عندهم لباسَ ويلبسُ لباس الآنسة واللطف والبذلة والمفاوضة. ولا يدخل في هذه الطبقة إلا واحداً من الألف وكلهم ذو فضلٍ في الرأي، وثقةٍ في المودة، وأمانةٍ في السر، ووفاءٍ بالإخاء.
الصغير يصير كبيراً
وعلى العاقل أن لا يستصغر شيئاً من الخطأ في الرأي، والزللِ في العلمِ، والإغفال في الأمور، فإنهُ من استصغر الصغير أوشكَ أن يجمعَ إليه صغيراً وصغيراً، فإن الصغير كبيرٌ. وإنما هي ثلم يثلمها العجزُ والتضييعُ. فإذا لم تسد أوشكت أن تتفجر بما لا يطاقُ. ولم نر شيئاً قط إلا قد أتي من قبلِ الصغير المتهاونِ به، قد رأينا الملكَ يؤتى من العدو المحتقر به، ورأينا الصحة تؤتى من الداء الذي لا يحفلُ بهِ، ورأينا الأنهار تنبشقُ من الجدول الذي يستخف بهِ.
وأقل الأمورِ احتمالاً للضياعِ الملكُ، لأنه ليس شيءٌ يضيعُ، وإن كان صغيراً، إلا اتصل بآخر يكونُ عظيماً.
الرأي والهوى عدوان
وعلى العاقلِ أن يجبنَ عن المضي على الرأي الذي لا يجدُ عليه موافقاً وإن ظن أنهُ على اليقينِ.
وعلى العاقلِ أن يعرف أن الرأي والهوى متعاديان، وأن من شأنِ الناسِ تسويفَ الرأي وإسعافَ الهوى، فيخالفَ ذلك ويلتمس أن لا يزال هواهُ مسوفاً ورأيه مسعفاً وعلى العاقل إذا اشتبه عليه أمرانِ فلم يدرِ في أيهما الصوابُ أن ينظر أهواهما عندهُ، فيحذرهُ.
علم نفسك قبل تعليم غيرك
ومن نصبَ نفسهُ للناسِ إماماً في الدينِ، فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه وتقويمها في السيرة والطعمةِ والرأي واللفظ والأخدانِ، فيكن تعليمهُ بسيرته أبلغَ من تعليمه بلسانهِ. فإنه كما أن كلام الحكمةِ يونقُ الأسماعَ، فكذلكَ عملُ الحكمةِ يروقُ العيونَ والقلوبَ. ومعلمُ نفسه ومؤدبها أحق بالإجلالِ والتفضيلِ من معلمِ الناسِ ومؤدبهم.
أعمدة السلطان
ولايةُ الناسِ بلاءٌ عظيمٌ. وعلى الوالي أربعُ خصالٍ هي أعمدةُ السلطانِ وأركانهُ التي بها يقومُ وعليها يثبتُ: الاجتهادُ في التخيرِ، والمبالغةُ في التقدمِ، والتعهد الشديدُ، والجزاءُ العتيد.
فأما التخيرُ للعمالِ والوزراء فإنهُ نظامُ الأمرِ ووضعُ مؤونةِ البعيد المنتشرِ. فإنهُ عسى أن يكونَ بتخيرهِ رجلاً واحداً قدٍ اختار ألفاً. لأنهُ من كان من العُمالِ خياراً فسيختارُ كما اختيرَ. ولعل عُمالَ العاملِ وعمالَ عُمالهِ يبلغونَ عدداً كثيراً، فمن تبين التخيرَ فقد أخذ بسببٍ وثيقٍ، ومن أسس أمرهُ على غيرِ ذلك لم يجدِ لبنائه قواماً.
وأما التقديم والتوكيدُ، فإنهُ ليس كل ذي لبٍ أو ذي أمانةٍ يعرفُ وجوهَ الأمورِ والأعمالِ. ولو كانَ بذلك عارفاً، لم يكن صاحبهُ حقيقاً أن يكل ذلك إلى علمهِ دونَ توقيفهِ عليهِ وتبيينهِ لهُ والاحتجاجِ عليه بهِ.
وأما التعهدُ، فإن الوالي إذا فعلَ ذلكَ كان سميعاً بصيراً، وإن العامل إذا فعل ذلك به كان متحصناً حريزاً.
وأما الجزاء فإنهُ تشبيتُ المحسنِ والراحةُ من المسيء.
بماذا يُستطاع السلطان
لا يُستطاعُ السلطانُ إلا بالوزراء والأعوانِ، ولا ينفعُ الوزراء إلا بالمودةِ والنصيحةِ، ولا المودةُ إلا مع الرأي والعفاف.
وأعمالُ السلطانِ كثيرةٌ، وقليلٌ ما تستجمعُ الخصالُ المحمودةُ عند أحدٍ، وإنما الوجهُ في ذلك والسبيلُ الذي به يستقيمُ العلم أن يكون صاحبُ السلطانِ عالماً بأمورِ من يريدُ الاستعانةَ به وما عند كل رجلٍ من الرأي والغناء، وما فيه من العيوبِ. فإذا استقر ذلك عنده عن علمهِ وعلم من يأتمنُ وجهَ لكل عملٍ من قد عرف أن عندهُ من الرأي والنجدةِ والأمانةِ ما يحتاجُ إليه فيهِ، وأن ما فيه من العُيوبِ لا يضر بذلك، ويتحفظُ من أن يوجه أحداً وجهاً لا يحتاجُ فيه إلى مروءةٍ، إن كانت عندهُ، لا يأمنُ عيوبهُ وما يكرهُ منه.
ثم على الملوكِ، بعد ذلكَ، تعاهدُ عمالهم وتفقد أمورهم، حتى لا يخفى عليهم إحسانُ محسنٍ ولا إساءةُ مسيء.
ثم عليهم، بعد ذلكَ، أن لا يتركوا محسناً بغيرِ جزاءٍ ولا يقروا مسيئاً ولا عاجزاً على الإساءةِ والعجزِ. فإنهم إن تركوا ذلك، تهاونَ المحسنُ، واجترأ المسيءُ، وفسد الأمرُ، وضاعَ العملُ.
الدنيا دُول
اقتصارُ السعي إبقاءٌ للجمامِ، وفي بعد الهمةِ يكون النصب، ومن سأل فوق قدرتهِ استحق الحرمانَ، وسوءُ حملِ الغنى أن يكونَ عند الفرحِ مرحاً، وسوءُ حملِ الفاقةِ أن يكون عند الطلبِ شرهاً، وعارُ الفقر أهونُ من عار الغنى، والحاجةُ مع المحبةِ خيرٌ من الغنى مع البغضةِ.
الدنيا دولٌ، فما كان لك منها أتاكَ على ضعفكَ، وما كان عليك لم تدفعهُ بقُوتكَ.
المثل أوضح للمنطق
إذا جعل الكلامُ مثلاً، كان ذلك أوضحَ للمنطقِ وأبيسَ في المعنى وآنق للسمعِ وأوسعَ لشعوبِ الحديثِ.
لا مال أفضل من العقل
أشد الفاقةِ عدمُ العقلِ، وأشدّ الوحدةِ وحدةُ اللجوجِ، ولا مال أفضلُ من العقلِ، ولا أنيس آنسُ من الاستشارةِ.
كن ستوراً
مما يعتبرُ به صلاحُ الصالحِ وحسنُ نظرهِ للناسِ أن يكونَ إذا استعتبَ المذنبُ ستُوراً لا يشيعُ ولا يذيعُ، وإذا استشيرَ سمحاً بالنصيحةِ مُجتهداً للرأي، وإذا استشارَ مطروحاً للحياء منفذاً للحزمِ معترفاً للحقّ.
الحارس والمحروس
القسم الذي يقسمُ للناس ويمتعونَ به نحوان: فمنهُ حارسٌ ومنهُ محروس، فالحارسُ العقلُ، والمرحوسُ المالُ، والعقلُ، بإذن اللهِ، هو الذي يحرزُ الحظ، ويؤنسُ الغربةَ، وينفي الفاقةَ، ويعرفُ النكرة، ويثمرُ المسبكبة، ويطيبُ الثمرةَ، ويوجهُ السوقةَ عند السلطانِ، ويستنزلُ للسلطانِ نصيحةَ السوقةِ، ويكسبُ الصديقَ، ويكفي العدو.
الأدب العظيم
كلامُ اللبيبِ، وإن كان نزراً، أدبٌ عظيمٌ، ومقارفةُ المأثم، وإن كان محتقراً، مصيبةٌ جليلةٌ. ولقاءُ الإخوانِ، وإن كان يسيراً، غنم حسنٌ.
أجناس الناس
قد يسعى إلى أبوابِ السلطانِ أجناسٌ من الناسِ كثيرٌ، أما الصالحُ فمدعو، وأما الصالحُ فمقتحم، وأما ذو الأدبِ فطالبٌ، وأما من لا أدبَ لهُ فمختلسٌ، وأما القوي فمُدافعٌ، وأما الضعيف فمدفوعٌ، وأما الحسنُ مستثيب، وأما المسيء فمستجير. فهو مجمعُ البر والفاجر، والعالمِ والجاهلِ، والشريفِ والوضيعِ.
الناسُ، إلا قليلاً ممن عصم اللهُ، مدخولونَ في أمورهم: فقائلهم باغٍ، وسامعهم عيابٌ، وسائلهم متعنتٌ، ومجيبهم متكلفٌ، وواعظُهمُ غيرُ محققٍ لقولهِ بالفعلِ، وموعوظهم غير سليمٍ من الاستخفافِ، والأمينُ منهم غيرُ متحفظٍ من إتيان الخيانة، والصدوقُ غيرُ محترسٍ من حديث الكذبةِ، وذو الدينِ غيرُ متورعٍ عن تفريطِ الفجرةِ، والحازمُ منهم غيرُ تاركٍ لتوقعِ الدوائرِ.
يتناقضُون الأنباء، ويتراقبون الدول، ويتعايبونَ بالهمز، مولعونَ في الرخاء بالتحاسدِ، وفي الشدةِ بالتخاذُلِ.
لا تغتر بالدنيا
كم قد انتزعتِ الدنيا ممنِ استمكنَ منها واعتكفت لهُ فأصبحتِ الأعمالُ أعمالهم والدنيا دنيا غيرهم، وأخذ متاعهم من لم يحمدهم، وخرجوا إلى من لا يعذُرُهُم.
فأصبحنا خلفاً من بعدهم، نتوقعُ مثل الذي نزلَ بهم، فنحنُ إذا تدبرنا أمورهم، أحقاءُ أن ننظر ما نغبطهم به فنتبعهُ وما نخافُ عليهم منه فنجتنبهُ.
كيف تطلع السلطان على عورتك
كان يُقالُ إنّ الله تعالى قد يأمرُ بالشيء ويبتلي بثقلهِ ونهى عن الشيء ويبتلي بشهوته.
فإذا كنتَ لا تعملُ من الخير إلا ما اشتهيتهُ، ولا تتركُ من الشر إلا ما كرهتهُ، فقد أطلعتَ الشيطان على عورتك، وأمكنتهُ من رمتك، فأوشك أن يقتحم عليك فيما تُحب من الخير فيكرههُ إليكَ وفيما تكرهُ من الشر فيحببهُ إليك. ولكن ينبغي لكَ في حب ما تُحب من الخير التحاملُ على ما ستثقلُ منه، وينبغي لكَ في كراهةِ ما تكرهُ من الشر التجنبُ لما يحب منهُ.
زخرف الدنيا
الدنيا زخرفٌ يغلبُ الجوارحَ، ما لم تغلبهُ الألبابُ. والحكيمُ من يغضي عنهُ ولم يشغل به قلبهُ: اطلعَ من أدناهُ فيما وراءهُ، وذكر لواحقَ شرهِ فأكلَ مرهُ وشربَ كدرهُ ليحلو لي لهُ ويصفو في طلوٍ من إقامةِ العيش الذي يبقى ويدومُ، غيرَ عائفٍ للرشدِ إن لم يلقهُ برضاهُ، ولم يأتهِ من طريقٍ هواهُ.
القيام على الثقة
لا تألفِ المستوخم، ولا تُقِمْ على غيرِ الثقةِ.
شكر الله على نعمه والعمل بطاعته
قد بلغ فضل الله على الناس من السعة وبلغت نعمتهُ عليهم من السبوغ ما لو أن أخسهم حظاً وأقلهم منهُ نصيباً وأضعفهم علماً وأعجزهم عملاً وأعياهم لساناً بلغ من الشكر له والثناء عليه بما خلص إليه من فضله، ووصل إليه من نعمته، ما بلغ لهُ منه أعظمهم حظاً وأوفرهم نصيباً وأفضلهم علماً وأقوالهم عملاً وأبسطهم لساناً، لكان عما استوجب الله عليه مقصراً وعن بلوغِ غايةِ الشكر بعيداً.
ومن أخذ بحظه من شكر الله وحمده ومعرفة نعمهِ والثناء عليه والتحميد لهُ، فقد استوجب بذلك من أدائه إلى الله القربة عندهُ والوسيلة إليه والمزيد فيما شكرهُ عليه من خير الدنيا، وحسن ثوابِ الآخرة.
أفضلُ ما يعلم به علم ذي العلم وصلاحُ ذي الصلاح أن يستصلح بما أوتي من ذلك ما استطاع من الناس ويرغبهم فيما رغب فيه لنفسه من حب الله، وحب حكمته، والعمل بطاعته، والرجاء لسحنِ ثوابه في المعادِ إليه، وأن يبينَ الذي لهم من الأخذ بذلك والذي عليهم في تركه، و أن يورث ذلك أهلهُ ومعارفهُ ليلحقهُ أجرهُ من بعد الموتِ.
الدين أفضل المواهب
الدينُ أفضل المواهبِ التي وصلت من الله إلى خلقهِ، وأعظمها منفعةً، وأحمدُها في كل حكمةٍ، فقد بلغ فضل الدين والحكمة أن مدحا على ألسنةِ الجهال على جهالتهم بهما وعماهُم عنهما.
أحق الناس
أحق الناسِ بالسلطان أهل المعرفة، وأحقهم بالتدبير العُلماءُ، وأحقهم بالفضل أعودهم على الناس بفضله، وأحقهم بالعلمِ أحسنهم تأديباً، وأحقهم بالغنى أهل الجود، وأقربهم إلى الله أنفذهم في الحق علماً وأكملهم به عملاً، وأحكمهم أبعدهم من الشك في الله، وأصوبهم رجاءً أوثقهم بالله، وأشدهم انتفاعاً بعلمه أبعدهم من الأذى، وأرضاهم في الناسِ أفشاهم معروفاً، وأقواهم أحسنهم معونةً، وأشجعهم أشدهم على الشيطان، وأفلحهم بحجةٍ أغلبهم للشهوة والحرصِ، وآخذهم بالرأي أتركهم للهوى، وأحقهم بالمودة أشدهم لنفسهِ حباً، وأجودهم أصوبهم بالعطية موضعاً، وأطولهم راحةً أحسنهم للأمورِ احتمالاً، وأقلهم دهشاً أرحبهم ذراعاً، وأوسعهم غنى أقنعهم بما أبعدهم من الإفراط، وأظهرهم جمالاً أظهرهم حصافة، وآمنهم في الناس أكلهم ناباً وخلباً، وأثبتهم شهادةً عليهم أنطقهم عنهم، وأعد لهم فيهم أدومهم مسالمةً لهم، وأحقهم بالنعمِ أشكرهم لما أوتي منها.
العُجب آفة العقل
أفضلُ ما يُورثُ الآباءُ الأبناء، الثناءُ الحسنُ والأدبُ النافعُ والإخوانُ الصالحون.
فصلُ ما بين الدينِ والرأي، أن الدين يسلم بالإيمان، وأن الرأي يشبتُ بالخصومةِ، فمن جعل الدين خصومةً، فقد جعل الدين رأياً، ومن جعل الرأي ديناً فقد صار شارعاً، ومن كان هو يشرعُ لنفسهِ الدينَ فلا دين لهُ.
قد يشتبهُ الدينُ والرأي في أماكن، لولا تشابههما لم يحتاجا إلى الفصل.
العُجب آفةُ العقل، واللجاجةُ قُعودُ الهوى، والبُخل لقاحُ الحرصِ، والمراءُ فسادُ اللسانِ، والحميةُ سببُ الجهلِ، والأنفُ توأمُ السفهِ، والمنافسة أختُ العداوةِ.
حكمتان
إذا هممت بخيرٍ فبادر هواكَ، لا يغلبك، وإذا هممتَ بشرٍ فسوف هواك لعلك تظفرُ. فإن ما مضى من الأيامِ والساعاتِ على ذلك هو الغنمُ.
لا يمنعنك صغرُ شأن امرئ من اجتناء ما رأيتَ من رأيه صواباً والاصطفاء لما رأيتَ من أخلاقه كريماً، فإنّ اللؤلؤة الفائقة لا تهانُ لهوانِ غائصها الذي استخرجها.
العلم زين لصاحبه
من أبوابِ التوفقِ والتوفيقِ في التعلمِ أن يكون وجه الرجلِ ا لذي يتوجهُ فيه من العلمِ والأدب فيما يوافقُ طاعةً ويكونَ له عندهُ محملٌ وقبولٌ. فلا يذهبُ عناؤهُ في غير غناءٍ، ولا تفنى أيامهُ في غير دركٍ، ولا يستفرغُ نصيبهُ فيما لا يسنجعُ فيه، ولا يكون كرجلٍ أرادَ أن يعمر أرضاً تهمةً فغرسها جوزاً ولوزاً، وأرضاً جلساً فغرسها نخلاً وموزاً.
العلم زينٌ لصاحبهِ في الرخاء، ومنجاةٌ لهُ في الشدة.
بالأدب تعمرُ القلوبُ، وبالعلمِ تستحكمُ الأحلامُ.
العقل الذاتي
العقل الذاتي غير الصنيعِ، كالأرضِ الطيبةٍ غير الخرابِ.
الدليل على معرفة الله
مما يدل على معرفةِ الله وسبب الإيمان أن يوكل بالغيبِ لكل ظاهرٍ من الدنيا، صغيرٍ أو كبيرٍ، عيناً، فهو يُصرفهُ ويحركهُ. فمن كان معتبراً بالجليل من ذلك فلينظر إلى السماء فسيعلمُ أن لها رباً يجري فلكها، ويُدبرُ أمرها، ومن اعتبر بالصغير، فلينظر إلى حبةِ الخردلِ فسيعرفُ أن لها مدبراً ينبتها ويزكيها ويقدرُ لها أقواثها من الأرض والماء، يوقتُ لها زمانَ نباتها وزمانَ تهشمها، وأمر النبوةِ والأحلامِ وما يحدثُ في أنفسِ الناسٍ من حيثُ لا يعلمونَ، ثم يظهرُ منهم بالقولِ والفعلِ، ثم اجتماعِ العلماء والجهالِ والمهتدين والضلال على ذكر الله وتعظيمه، واجتماعِ من شك في اللهِ وكذب بهِ على الإقرارِ بأنهم أنشئوا حديثاً، ومعرفتهم أنهم لم يحدثوا أنفسهم.
فكل ذلك يهدي إلى الله ويدُل على الذي كانت منهُ هذه الأمورُ، مع ما يزيدُ ذلك يقيناً عند المؤمنين بأنّ الله حقٌ كبيرٌ ولا يقدرُ أحدٌ على أن يوقن أنه بالباطلِ.
حق السلطان المقسط
إن للسلطانِ المقُسطِ حقاً لا يصلحُ بخاصةٍ ولا عامةٍ أمرٌ إلا بإرادتهِ، فذو اللُّب حقيقٌ أن يخُلص لهمُ النصيحة، ويبذل لهم الطاعة، ويكتُم سرّهم، ويزينَ سيرتهم، ويذبُّ بلسانه ويده عنهم، ويتوخى مرضاتهم، ويكون من أمرهِ المؤاتاهُ لهم والإيثارُ لأهوائهم ورأيهم على هواهُ ورأيهِ، ويقدرَ الأمور على موافقتهم وإن كان ذلك له مخالفاً، وأن يكون منهُ الجد في المخالفة لمن جانبهم وجهل حقهم، ولا يواصل من الناسِ إلا من لا تُباعد مواصلتهُ إياهُ منهم، ولا تحملهُ عداوةُ أحدٍ لهُ ولا إضرارٌ به على الاضطغانِ عليهم، ولا مؤاتاهُ أحدٍ على الاستخفاف بشيء من أمورهم والانتقاص لشيء من حقهم، ولا يكتُمهم شيئاً من نصيحتهم، ولا يتشاقل عن شيء من طاعتهم، ولا يكتمهم شيئاً من نصيحتهم، ولا يتثاقلَ عن شيء من طاعتهم، ولا يبطر إذا أكرموهُ، ولا يجترئ عليهم إذا قربوه، ولا يطغى إذا سلطوهُ، ولا يلحف إذا سألهم، ولا يدخل عليهمُ المؤونة، ولا يستشقل ما حملوهُ، ولا يعتز عليهم إذا رضوا عنهُ، ولا يتغير لهم إذا سخطوا عليه، وأن يحمدهم على ما أصابَ من خيرٍ منهم أو من غيرهم فإنهُ لا يقدرُ أحدٌ على أن يُصيبهُ بخيرٍ إلا بدفاعِ الله عنهُ بهم.
الدليل على علم العالم
مما يدلُ على علمِ العالمِ معرفتهُ ما يدركُ من الأمورِ وإمساكه عما لا يدركُ وتزيينهُ نفسهُ بالمكارم، وظهورُ علمهِ للناسِ من غير أن يظهر منهُ فخرٌ ولا عجبٌ، ومعرفتهُ زمانهُ الذي هو فيه، وبصرهُ بالناسِ، وأخذُهُ بالقسطِ، وإرشادهُ المسترشد، وحسن مخالقتهِ خُلطاءهُ، وتسويتهُ بين قلبهِ ولسانهِ، وتحريه العدل في كل أمرٍ، ورحب ذرعه فيما نابهُ، واحتجاجهُ بالحججِ فيما عمل، وحسنُ تبصيرهِ.
علم الآخرة
من أراد أن يبصر شيئاً من علمِ الآخرة، فالعلم الذي يعرفُ به ذلك، ومن أرداد أن يبصر شيئاً من أمر الدنيا فبالأشياء التي هي تدل عليه.
ماذا يجب على المرء
ليكنِ المرء سؤولاً، وليكن فصولاً بين الحق والباطل، وليكن صدوقاً ليؤمن على ما قال، وليكن ذا عهد ليوفى لهُ بعهده، وليكن شكوراً ليستوجب الزيادة، وليكن جواداً ليكون للخير أهلاً، وليكن رحيماً بالمضرورين لئلا يبتلى بالضر، وليكن ودوداً لئلا يكون معدناً لأخلاق الشيطان، وليكن متواضعاً ليفرح لهُ بالخير ولا يُحسد عليه، وليكن قنعاً لتقر عينه بما أوتي، وليسر للناسِ بالخيرِ لئلا يؤذيه الحسدُ، وليكن حذراً لئلا تطول مخافتهُ، ولا يكونن حقوداً لئلا يضرّ بنفسهِ إضراراً باقياً، وليكن ذا حياء لئلا يستذم إلى العُلماء. فإن مخافة العالمِ مذمة العُلماء أشد من مخافته عُقوبة السلطان.
نصائح سنية
حياةُ الشيطان تركُ العلمِ، وروحهُ وجسدهُ الجهلُ، ومعدنهُ في أهل الحقدِ والقساوةِ، ومثواهُ في أهل الغضبِ، وعيشهُ في المصارمةِ، ورجاؤهُ في الإصرار على الذنوبِ.
وقال: لا ينبغي للمرء أن يعتمد بعلمه ورأيه ما لم يذاكرهُ ذوو الألباب ولم يجامعوه عليه. فإنهُ لا يستكملُ علمُ الأشياء بالعقلِ الفرد.
أعدلُ السير أن تقيس الناس بنفسكَ، فلا تأتي إليهم إلا ما ترضى أن يؤتى إليك.
وأنفعُ العقلِ أن تحسنَ المعيشة فيما أوتيت من خيرٍ، وأن لا تكترث من الشر بما لم يصبك.
ومن العلمِ أن تعلم أنك لا تعلمُ بما لا تعلمُ.
ومن أحسنِ ذوي العقولِ عقلاً من أحسن تقدير أمرِ معاشه ومعادهِ تقديراً لا يفسد عليه واحداً منهما نفادُ الآخر، فإن أعياهُ ذلك رفض الأدنى وأثر عليه الأعظم.
وقال: المؤمنُ بشيء من الأشياء، وإن كان سحراً، خيرٌ ممن لا يؤمنُ بشيء ولا يرجو معاداً.
لا تؤدي التوبةُ أحداً إلى النار، ولا الإصرارُ على الذنوبِ أحداً إلى الجنةِ.
من أفضل البر ثلاث خصالٍ: الصدقُ في الغضبِ، والجودُ في العسرةِ، والعفو عند القدرةِ.
رأس الذنوب
رأسُ الذنوبِ الكذبُ: هو يؤسسُها وهو يتفقدها ويثبتها. ويتلونُ ثلاثة ألوانٍ: بالأمنيةِ، والجحودِ، والجدلِ، يبدو لصاحبهِ بالأمنية الكاذبة فيما يزينُ لهُ من الشهواتِ فيشجعهُ عليها بأن ذلك سيخفى. فإذا ظهر عليه قابلهُ بالجحودِ والمكابرةِ، فإن أعياهُ ذلك ختم بالجدلِ، فخاصم عن الباطل ووضع لهُ الحجج، والتمس به التثبت وكابر بهِ الحق حتى يكون مسارعاً للضلالةِ ومكابراً بالفواحشِ.
دين المرء
لا يثبتُ دين المرء على حالةٍ واحدةٍ أبداً، ولكنهُ لا يزالُ إما زائداً وإما ناقصاً.
علامات اللئيم من علاماتِ اللئيم المخادعِ أن يكون حسن القولِ، سيء الفعلِ، بعيد الغضب، قريب الحسد، حمولاً للفحشِ، محازياً بالحقد، متكلفاً للجود، صغير الخطر، متوسعاً فيما ليس لهُ، ضيقاً فيما يملكُ.
اشتغل بالأعظم
وكان يقالُ: إذا تخالجتك الأمور فاشتغل بأعظمها خطراً، فإن لم تستبن ذلك فأرجاها دركاً، فإن اشتبه ذلك فأجدرها أن لا يكون له مرجوعٌ حتى تولي فرصته.
الرجال أربعة
وكان يقالُ: الرجالُ أربعةٌ: اثنان تختبرُ ما عندهما بالتجربةِ، واثنان قد كفيت تجربتهما.
فأما اللذانِ تحتاجُ إلى تجربتهما، فإن أحدهما برٌّ كان مع أبرارٍ، والآخر فاجرٌ كان مع فُجّارٍ، فإنك لا تدري لعل البر منهما إذا خالط الفُجّارَ أن يتبدل فيصير فاجراً، ولعل الفاجر منهما إذا خالط الأبرار أن يتبدل براً، فيتبدلُ البر فاجراً، والفاجر براً.
وأما اللذان قد كفيتَ تجربتهما وتبين لك ضوءُ أمرهما، فإن أحدهما فاجرٌ كان في أبرارٍ، والآخر بر كان في فُجّارٍ.
حكم متفرقة
حق على العاقل أن يتخذ مراتينِ، فينظر من إحداهما في مساوئ نفسه فيتصاغر بها ويصلح ما استطاع منها، وينظر في الأخرى في محاسن الناسِ، فيحليهم بها ويأخذ ما استطاع منها.
أحضر خصومةَ الأهل والولدِ والصديق والضعيفِ، واحتج عليهم بالحجج.
لا يوقعنك بلاءٌ خلصتَ منهُ في آخر لعلك لا تخلصُ منهُ.
الورعُ لا يخدعُ، والأريبُ لا يخدعُ.
ومن ورعِ الرجلِ أن لا يقولَ ما لا يعلمُ، ومن الإربِ أن يتشبت فيما يعلمُ.
وكان يقالُ: عمل الرجلِ فيما يعلم أنه خطأ هوى، والهوى آفةُ العفافِ. وتركهُ العمل بما يعلم أنه صوابٌ تهاونٌ، والتهاونُ آفةُ الدين. وإقدامُهُ على ما لا يدري أصوابٌ هو أم خطأ جماح، والجماح آفة العقلِ.
وكان يقالُ: وفر من فوقك، ولن لمن دونك، وأحسن مؤاتاة أكفائك. وليكن آثر ذلك عندك مؤاتاةُ الإخوان، فإن ذلك هو الذي يشهد لك بأن إجلالك من فوقك ليس بخضوعٍ منك لهم، وأن لينكَ لمن دونك ليس لالتماسِ خدمتهم.
غير المغتبطين
خمسةٌ غير مغتبطين في خمسة أشياء، يتندمون عليها، الواهنُ المفرطُ إذا فاته العملُ، والمنقطعُ من إخوانه وصديقهِ إذا نابتهُ النوائبُ، والمستمكنُ منه عدوهُ لسوء رأيه إذا تذكر عجزهُ، والمفارق للزوجة الصالحة إذا ابتلي بالطالحةِ، والجريء على الذنوبِ إذا حضرهُ الموتُ.
ماذا ينفع
لا ينفع العقلُ بغير ورعٍ، ولا الحفظُ بغيرِ عقلٍ، ولا شدةُ البطشِ بغير شدة القلب، ولا الجمالُ بغيرِ حلاوةٍ، ولا الحسبُ بغير أدبٍ، ولا السرورُ بغير أمنٍ، ولا الغنى بغير جُودٍ، ولا المروءةُ بغير تواضعٍ، ولا الخفض بغير كفايةٍ، ولا الاجتهادُ بغير توفيقٍ.
أمور هن تبع الأمور
فالمروءاتُ كلها تبعٌ للعقلِ، والرأي تبعٌ للتجربةِ، والغبطةُ تبعٌ لحسنِ الثناء، والسرورُ تبعٌ للأمنِ، والقرابةُ تبع للمودةِ، والعملُ تبعٌ للقدرِ، والجدةُ تبعٌ للإنفاقِ.
أصول وثمرات
أصلُ العقل التثبتُ، وثمرتهُ السلامة، وأصل الورع القناعةُ، وثمرتهُ الظفرُ، وأصل التوفيقِ العملُ، وثمرتهُ النجحُ.
الذكر السيء
لا يذكر الفاجرُ في العقلاء، ولا الكذوبُ في الأعفّاء، ولا الحذولُ في الكرماء، ولا الكفورُ بشيءٍ من الخيرِ.
من تؤاخي
لا تؤاخين خباً، ولا تستنصرنً عاجزاً، ولا تستعيننّ كسلاً.
بم يروح المرء عن نفسه
ومن أعظمِ ما يروحُ به المرءُ نفسهُ أن لا يجري لما يهوى وليس كائناً، ولا لما لا يهوى وهو لا محالة كائنٌ.
لا تفرح بالبطالة
اغتنم من الخير ما تعجلت، ومن الأهواء ما سوفت، ومن النصب ما عاد عليكَ. ولا تفرح بالبطالةِ، ولا تجبن عن العملِ.
ضياع العقل
من استعظم من الدنيا شيئاً فبطر، واستصغر من الدنيا شيئاً فتهاون، واحتقر من الإثم شيئاً فاجترأ عليه، واغتر بعدوٍ وإن قل فلم يحذره، فذلك من ضياعِ العقلِ.
ذو العقل لا يستخف بأحد
لا يستخفُ ذو العقلِ بأحدٍ.
وأحق من لم يستخف به ثلاثةٌ: الأتقياءُ والولاةُ والإخوانُ، فإنهُ من استخف بالأتقياء أهلك دينهُ، ومن استخف بالولاةِ أهلك دنياهُ، ومن استخف بالإخوانِ أفسد مروءتهُ.
أزواج
من حاول الأمورَ احتاج فيها إلى ست: العلمِ، والتوفيق، والفرصةِ، والأعوانِ، والأدبِ، والاجتهادِ.
وهن أزواجٌ: فالرأيُ والأدبُ زوجٌ. لا يكملُ الرأي بغيرِ الأدبِ، ولا يكملُ الأدبُ إلا بالرأي.
والأعوانُ والفرصةُ زوجٌ لا ينفعُ الأعوانُ إلا عند الفرصةِ، ولا تتم الفرصةُ إلا بحضورِ الأعوانِ.
والتوفيقُ والاجتهادُ زوجٌ، فالاجتهادُ سببُ التوفيقِ، وبالتوفيقِ ينجحُ الاجتهادُ.
سلامة العاقل
يسلمُ من عظامِ الذنوبِ و العيوبِ بالقناعةِ ومحاسبةِ النفسِ.
لا تجدُ العاقلَ يُحدثُ من يخافُ تكذيبهُ، ولا يسألُ من يخافُ منعهُ، ولا يعدُ بما لا يجدُ إنجازهُ، ولا يرجو ما يعنفُ برجائهِ، ولا يقدمُ على من يخافُ العجزَ عنهُ.
وهو يسخي بنفسهِ عما يغبطُ بهِ القوالون خروجاً من عيبِ لتكذيبِ، ويسخي بنفسه عما ينالُ السائلون سلامةً من مذلةِ لمسألةِ، ويسخي بنفسهِ عن محمدةِ المواعيد براءة من مذمةِ لخلفِ، ويسخي بنفسهِ عن فرحِ الرجاء خوفَ الإكداء، ويسخيهِ عن مراتبِ المقدمين ما يرى من فضائحِ المقصرين.
ذو العقل
لا عقل لمن أغفلهُ عن آخرتهِ ما يجدُ من لذةِ دنياهُ، وليس من العقلِ أن يحرمهُ حظهُ من الدنيا بصرهُ بزوالها.
سعيد ومرجوّ
حاز الخير رجُلانِ: سعيدٌ ومرجو.
فالسعيد الفالجُ، والمرجو من لم يخصم.
والفالجُ الصالحُ ما دام في قيدِ الحياةِ وتعرض الفتنِ في مُخاصمةٍ الخصماء من الأهواء والأعداء.
السعيد يرغبه الله والشقي يرغبه الشيطان
السعيدُ يُرغبهُ اللهُ في الآخرةِ حتى يقُول: لا شيء غيرها، فإذا هضمَ دنياهُ وزهدَ فيها لآخرتهِ، لم يحرمهُ الله بذلكَ نصيبهُ من الدنيا ولم ينقصهُ من سرورهِ فيها.
والشقي يرغبهُ الشيطانُ في الدنيا حتى يقول: لا شيء غيرها. فيجعلُ الله له النغيص في الدنيا التي آثر مع الخزي الذي يلقى بعدها.
الرجال أربعة
الرجالُ أربعةٌ: جوادٌ، وبخيلٌ، ومسرفٌ، ومقتصدٌ. فالجوادُ الذي يوجهُ نصيبَ آخرتهِ ونصيبَ دنياهُ جميعاً في أمرِ آخرتهِ.
والبخيلُ الذي يخطئ واحدةً منهما نصيبها.
والمسرفُ الذي يجمعهما لدنُياهُ.
والمقتصدُ الذي يلحقُ بكل واحدةٍ منهُما نصيبها.
أغنى الناس وخير ما يؤتى المرء
أغنى الناس أكثرهم إحساناً.
قال رجلٌ لحكيمٍ: ما خيرُ ما يؤتى المرء؟ قال: غريزةُ عقلٍ. قال: فإن لم يكن؟ قال: فتعلمُ علمٍ. قال: فإن حرمهُ؟ قال: صدقُ اللسانِ قال: فإن حرمهُ؟ قال: سكوتٌ طويلٌ. قال: فإن حرمه؟ قال: ميتةٌ عاجلةٌ.
أشدّ العيوب
من أشد عيوبِ الإنسانِ خفاءً عيوبهُ عليه. فإن من خفي عليه عيبه خفيت عليه محاسنُ غيره، ومن خفي عليه عيبُ نفسه ومحاسنُ غيرهِ فلن يقلعَ عن عيبهِ الذي لا يعرفُ ولن ينال محاسنَ غيرهِ التي لا يبصرُ أبداً.
الخصال المذمومة
خمولُ الذكر أجملُ من الذكرِ الذميم.
لا يوجد الفخورُ محموداً، ولا الغضوبُ مسروراً، ولا الحر حريصاً، ولا الكريمُ حسوداً، ولا الشرهُ غنياً، ولا الملولُ ذا إخوانٍ.
خصالٌ يسرُ بها الجاهلُ، كلها كائنٌ عليهِ وبالاً: منها، أن يفخر من العلمِ والمروءةِ بما ليس عندهُ ومنها، أني أرى بالأخيار من الاستهانة والجفوةِ ما يشمتهُ بهم. ومنها، أن يناقل عالماً وديعاً منصفاً لهُ في القولِ فيشتد صوتُ ذلكَ الجاهلِ عليه ثم يفلجهُ نظراؤهُ من الجهالِ حولهُ بشدةٍ الصوت.
ومنها، أن تفرطَ منهُ الكلمةُ أو الفعلةُ المعجبةُ للقومِ فيذكر بها.
ومنها، أن يكون مجلسهُ في المحفلِ وعند السلطانِ فوق مجالسِ أهل الفضلِ عليهِ.
سخافة المتكلم
من الدليلِ على سخافةِ المتكلمِ أن يكون ما يُرى من ضحكه ليس على حسبِ ما عندهُ من القولِ، أو الرجلُ يكلّمُ صاحبهُ فيُجاذبهُ الكلام ليكونَ هو المتكلم، أو يتمنى أن يكون صاحبهُ قد فرغَ وأنصت لهُ فإذا نصتَ لهُ لم يحسنِ الكلامَ.
القائد إلى النار وخازن الشيطان
فضلُ العلمِ في غير الدينِ مهلكةٌ، وكثرةُ الأدبِ في غيرِ رضوانِ الله ومنفعةِ الأخبارِ قائدٌ إلى النارِ.
والحفظُ الذاكي الواعي لغيرِ العلمِ النافعِ مضرٌ بالعملِ الصالحِ، والعقلُ غيرُ الوازع عن الذنوبِ خازنُ الشيطانِ.
أخوف ما يكون
لا يؤمننك شر الجاهلِ قرابةٌ ولا جوارٌ ولا إلفٌ.
فإن أخوف ما يكونُ الإنسانُ لحريقِ النارِ أقربُ ما يكونُ منها، وكذلك الجاهلُ إن جاورك أنصبكَ، وإن ناسبكَ جنى عليك، وإن ألفلك حمل عليك ما لا تطيقُ، وإن عاشرك آذاك وأخافك، مع أنهُ عند الجوعِ سبعٌ ضارٍ، وعند الشبعِ ملكٌ فظٌ، وعند الموافقةِ في الدين قائدٌ إلى جهنم.
فأنت بالهربِ منه أحق منكَ بالهربِ من سم الأساودِ والحريقِ المخوفِ والدينِ الفادحِ والداء العياء.
ماذا يعمل الحازم
وكان يقالُ: قارب عدوكَ بعض المقاربة، تنل حاجتك، ولا تقاربهُ كل المقاربةِ، فيجترئ عليك عدوك وتذل نفسك ويرغب عنك ناصركَ.
ومثل ذلك مثل العود المنصوبِ في الشمسِ، إن أملتهُ قليلاً زاد ظلهُ، وإن جاوزتهُ الحد في إمالتهِ، نقص الظل.
الحازمُ لا يأمنُ عدوهُ على حالٍ: إن كان بعيداً لم يأمن مغاورته، وإن كان قريباً لم يأمن مواثبتهُ، وإن كان منكشفاً لم يأمن استطرادهُ، وكمينهُ، وإن رآه وحيداً لم يأمن مكرهُ.
الملكُ الحازم يزدادُ برأي الوزراء الحزمةِ كما يزدادُ البحرُ بموادهِ من الأنهارِ.
الظفر بالحزمِ، والحزمُ بإجالة الرأي بتحصينِ الأسرارِ.
فائدة المشورة
إن المستشير وإن كان أفضل من المستشار رأياً، فهو يزدادُ برأيه رأياً، كما تزدادُ النارُ بالودكِ ضوءاً.
على المُستشارِ مُوافقةُ المستشير على صوابِ ما يرى، والرفقُ به في تبصير خطأ إن أتى بهِ، وتقليبُ الرأي فيما شكا فيه، حتى تستقيم لهما مشاورتهما.
الطمع
لا يطمعنَ ذو الكبر في حسن الثناء، ولا الخِبُّ في كثرة الصديق، ولا السيء الأدبِ في الشرفِ، ولا الشحيحُ في المحمدةِ، ولا الحريصُ في الإخوانِ، ولا الملكُ المعُجبُ بثباتِ الملكِ.
صرعة اللين
صرعةُ اللين أشد استئصالاً من صرعة المكابرة.
أربعة أشياء
أربعةُ أشياءَ لا يستقل منها قليلٌ: النارُ، والمرضُ، والعدو، والدينُ.
أحق الناسِ بالتوفير
الملكُ الحليمُ، العالمُ بالأمورِ وفرصِ الأعمالِ ومواضعِ الشدةِ و اللين والغضبِ والرضا والمعالجةِ والأناة، الناظرُ في أمرِ يومه وغدهِ وعواقبِ أعمالهِ.
العاجز والحازم
السببُ الذي يندركُ به العاجزُ حاجتهُ هو الذي يحولُ بينّ الحازمِ وبين طلبتهِ.
أهل العقل والكرم
إن آهل العقلِ والكرمِ يبتغون إلى كل معروفٍ وصلةً وسبيلاً.
والمودة بين الأخيار سريع اتصالها بطئ الانكسار هين الإصلاح. والمودة بين الأشرار سريع انقطاعها بطئ اتصالها، كالكوز من الفخار يكسره أدنى عبث ثم لا وصل له أبداً.
والكريم يمنح الرجل مودتهُ عن لقيةٍ واحدةٍ أو معرفةِ يومٍ. واللئيم لا يصلُ أحداً إلا عن رغبةٍ أو رهبةٍ.
فإن أهل الدنيا يتعاطون فيما بينهم أمرين ويتواطأون عليهما: ذات النفسِ، وذات اليد.
فأما المتبادلون ذات اليد فهُمُ المتعاونون المستمتعونَ الذينَ يلتمسُ بعضهمُ الانتفاعَ ببعضٍ مناجزةً ومُكايلةً.
المال كلّ شيء
ما التبعُ والأعوانُ والصديقُ والحشمُ إلا للمالِ. ولا يظهرُ المروءةَ إلا المالُ. ولا الرأي ولا القوةُ إلا بالمال.
ومن لا إخوانَ لهُ فلا أهلَ لهُ، ومن لا أولاد لهُ فلا ذكر لهُ، ومن لا عقلَ لهُ فلا دنيا لهُ ولا آخرة، ومن لا مال لهُ فلا شيء لهُ.
الفقر مجمعة للبلايا
والفقرُ داعيةٌ إلى صاحبهِ مقتَ الناسِ، وهو مسلبةٌ للعقلِ والمروءةِ، مذهبةٌ للعلمِ والأدبِ، ومعدنٌ للتهمةِ، ومجمعةٌ للبلايا.
ومن نزل به الفقرُ والفاقةُ لم يجد بُدّاً من تركِ الحياءِ، ومن ذهب حياؤهُ ذهبَ سرورهُ، ومن ذهبَ سرورهُ مقتَ، ومن مقتَ أو ذي، ومن أوذي خزنَ، ومن حزنَ فقد ذهبَ عقلهُ واستنكرَ حفظُهُ وفهمهُ.
ومن أصيبَ في عقله وفهمهِ وحفظهِ كان أكثر قولهِ وعملهِ فيما يكون عليك لا لهُ.
فإذا افتقر الرجلُ اتهمهُ من كان له مؤتمناً، وأساء به الظن من كان يظن به حسناً، فإذا أذنب غيرهُ ظنوهُ وكان للتهمةِ وسوء الظن موضعاً.
وليس من خلةٍ هي للغني مدحٌ إلا هي للفقيرٍ عيبٌ، فإن كانَ شجاعاً سمي أهوج، وإن كانَ جواداً سمي مفسداً، وإن كان حليماً سمي ضعيفاً، وإن كان وقوراً سمي مفسداً، وإن كان حليماً سمي ضعيفاً، وإن كان وقوراً سمي بليداً، وإن كان لسناً سمي مهذاراً، وإن كان صموتاً سمي عيياً.
الموت راحة
وكان يقالُ: من ابتلي بمرضٍ في جسدهِ لا يفارقهُ، أو بفراق الأحبةِ والأخوان، أو بالغربةِ حيثُ لا يعرفُ مبيتاً ولا مقيلاً ولا يرجو إياباً، أو بفاقةٍ تضطرهُ إلى المسألة: فالحياةُ لهُ موتٌ، والموتُ له راحةٌ.
البلايا في الحرص والشره
وجدنا البلايا في الدنيا إنما يسوقُها إلى أهلها الحرصُ والشرهُ. ولا يزالُ صاحبُ الدنيا يتقلبُ في بليةٍ وتعبٍ، لأنه لا يزالُ بخلةِ الحرصِ والشرهِ.
ماذا قال العلماء
وسمعت العلماء قالوا: لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسبَ كحسنِ الخلقِ، ولا غنى كالرضى. وأحق ما صبر عليه ما لا سبيل إلى تغييرهِ. وأفضلُ البر الرحمةُ، ورأسُ المودةِ الاسترسالُ، ورأسُ العقلِ المعرفةُ بما يكونُ وما لا يكونُ، وطيبُ النفسِ حسنُ الانصرافِ عما لا سبيل إليه. وليس من الدنيا سرورٌ يعدلُ صحبةَ الإخوانِ، ولا فيها غم يعدلُ غم فقدهم.
تمام حسن الكلام
لا يتم حسنُ الكلامِ إلى بحسنِ العملِ، كالمريض الذي قد علمَ دواء نفسهِ، فإذا هو لم يتداو به لم يغنهِ علمهُ.
صاحب المروءة
الرجلُ ذو المروءة قد يكرمُ على غير مالٍ، كالأسد الذي يهابُ وإن كان عقيراً.
والرجلُ الذي لا مروءةً لهُ يهانُ وإن كثر مالهُ، كالكلبِ الذي يهونُ على الناسِ وإن هو طوق وخلخلَ.
تعاهد نفسك
ليحسنُ تعاهدكَ نفسكَ بما تكونُ به للخيرِ أهلاً. فإنك إذا فعلتَ ذلك، أتاك الخيرُ يطلبكَ، كما يطلبُ الماءُ السيل إلى الحدورة.
أشياء غير ثابتة
وقيل في أشياء ليس لها ثباتٌ ولا بقاءٌ: ظل الغمامِ، وخلة الأشرارِ، وعشق النساء، والنبأ الكاذبُ، والمالُ الكثيرُ.
وليس يفرحُ العاقلُ بالمالِ الكثير، ولا يحزنهُ قلتهُ. ولكن مالهُ عقلهُ وما قدم من صالحِ عملهِ.
أولى الناس
إن أولى الناس بفضلِ السرورِ وكرمِ العيشِ وحسنِ الثناء من لا يبرحُ رحله من إخوانهِ وأصدقائه من الصالحين موطوءاً ولا يزال عندهُ منهم زحامٌ، ويسرهم ويسرونهُ من وراء حاجاتهم وأمورهمُ، فإنّ الكريم إذا عثر لم يستقل إلا بالكرامِ، كالفيلِ إذا وحل لم يستخرجهُ غلا الفيلةُ.
شراء العظيم بالصغير
لا يرى العاقلُ معروفاً صنعهُ، وإن كان كثيراً. ولو خاطر بنفسه وعرضها في وجوهِ المعروف، لم ير ذلك عيباً. بل يعلمُ أنما أخطر الفاني بالباقي، واشترى العظيم بالصغير.
وأغبط الناس عند ذوي العقلِ أكثرهم سائلا منجحاً، ومستجيراً آمناً.
المشاركة في المال
لا تعد غنياً من لم يشارك في مالهِ، ولا تعد نعيماً ما كان فيه تنغيص وسوءُ ثناء، ولا تعد الغنم غنماً إذا ساق غرماً ولا الغرمَ غُرماً إذا ساقَ غنماً، ولا تعتد من الحياةِ ما كان في فراقِ الأحبة.
المعونة على تسلية الهموم
ومن المعونة على تسلية الهمومِ وسكون النفسِ لقاءُ الأخِ أخاهُ، وإفضاءُ كل واحدٍ منهما إلى صاحبهِ ببثةِ.
وإذا فرق بين الأليف وأليفهِ فقد سُلبَ قرارهُ وحُرمَ سرورهُ.
من بلاء إلى بلاء
وقلّ ما ترانا نُخلِّفُ عَقَبَةً من البلاء إلا صرنا في أُخرى.
تقلب الأحوال وتعاقبها
لقد صدق القائل الذي يقول: لا يزال الرجلُ مستمراً ما لم يعثر، فإذا عثر مرة واحدةً في أرضِ الخبارِ لج بهِ العثارُ، وإن مشى في جدد لأن هذا الإنسان موكلٌ به البلاءُ، فلا يزالُ في تصرفٍ وفي تقلبٍ لا يدومُ له شيءٌ ولا يثبت معهُ، كما لا يدومُ لطالعِ النجومِ طلوعُهُ ولا لآفلها أفولهُ. ولكنها في تقلبٍ وتعاقُبٍ: فلا يزال الطالعُ يكُونُ آفلاً طالعاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق